تصعيد باكستاني إيراني- صراع حدودي، أطماع إقليمية، مستقبل غامض

المؤلف: أحمد موفق زيدان08.11.2025
تصعيد باكستاني إيراني- صراع حدودي، أطماع إقليمية، مستقبل غامض

تصاعدت حدة التوترات بشكل مفاجئ بين باكستان وإيران، الدولتين المتجاورتين، وذلك عندما أطلقت إيران وابلاً من الصواريخ الباليستية والطائرات المسيّرة على ما زُعم أنها معاقل لتنظيم "جيش العدل" السني. تتهم إيران هذا التنظيم، الذي يتخذ من الأراضي الباكستانية مقرًا له، بتنفيذ عمليات داخل حدودها. وباكستان، بدورها، ردت على الفور بضربات جوية وصاروخية استهدفت ما وصفته بمقرات لجماعات انفصالية بلوشية، وعلى رأسها "جيش تحرير بلوشستان" وجبهة "تحرير بلوشستان"، اللتين تتخذان من إقليم سيستان وبلوشستان الإيراني نقطة انطلاق لهجماتهما ضد باكستان.

ما أثار دهشة المراقبين السياسيين والعسكريين الباكستانيين هو الأسلوب العنيف الذي اتبعته إيران في ردها، والذي لم يسبق له مثيل في العلاقات بين البلدين، خاصة وأن اتصالات رفيعة المستوى كانت جارية بين مسؤولي الدولتين. علاوة على ذلك، لم يعلن "جيش العدل" مسؤوليته عن العمليات الأخيرة، بل تبناها "تنظيم الدولة". ورداً على ذلك، قصفت إيران ما ادعت أنه معاقل لـ"تنظيم الدولة" في محافظة "إدلب"، وهي منطقة كانت قد طُهرت من التنظيم قبل سنوات. ومعلوم للجميع أن "تنظيم الدولة" ينشط في مناطق شرق سوريا، حيث تتقاسم السيطرة على المنطقة ميليشيات موالية لإيران وروسيا، إلى جانب القوات الأميركية وقوات "قسد الكردية" المتحالفة معها.

إيران وباكستان تستغلان الجماعات البلوشية في حروب بالوكالة، سعيًا وراء مكاسب جيوسياسية واقتصادية. لكن من الواضح أن باكستان تخلت عن هذه السياسة في تلك الفترة، بسبب تخلي الرئيس برويز مشرف آنذاك عن دعم وحماية هذه الجماعات.

الجماعات البلوشية وحروب الوكالة

تعود جذور التمرد البلوشي في باكستان إلى عام 1973، عندما طالبت جماعات بلوشية بمزيد من الحقوق الاقتصادية والسياسية. إقليم بلوشستان الباكستاني هو الأكبر مساحة في باكستان، والأقل من حيث عدد السكان، والأغنى بالموارد الطبيعية، مثل الغاز. كما أن الإطلالة على الخليج العربي أكسبته لاحقًا أهمية استراتيجية وسياسية، خاصة بعد الاستثمارات الصينية فيه.

ومع ذلك، ترى الحاضنة البلوشية أن كل هذه الثروات تخدم مصالح الأقاليم الباكستانية الأخرى، وعلى وجه الخصوص إقليم البنجاب، الذي يمثل أكثر من 60% من سكان باكستان. بينما سكان إقليم بلوشستان محرومون حتى من الغاز الذي ينتجه إقليمهم. ومع مرور الوقت، تصاعد التمرد والغضب في صفوف الحركات البلوشية، التي سعت للحصول على الدعم من روسيا وأمريكا والهند وإيران في أوقات مختلفة. وساعد وصول حكومات أفغانية مقربة من روسيا وأمريكا في العقود الماضية في تعزيز وجود هذه الجماعات، مما زاد من خطرها وتهديدها. بعد عام 2000، ظهر "جيش تحرير بلوشستان"، ثم "جبهة تحرير بلوشستان"، اللذان يتخذان، وفقًا للتقديرات الباكستانية، من المناطق الإيرانية المجاورة لباكستان منطلقًا لأنشطتهما.

مع تصاعد نشاط حركة طالبان الأفغانية ضد القوات الأميركية والغربية، ازداد نشاط الجماعات الإسلامية المسلحة في باكستان وعلى الحدود الإيرانية، ومن بينها جماعة "جند الله" بزعامة عبد الملك ريغي، الذي قامت باكستان بترحيله إلى أفغانستان. وتقول الروايات إن القوات الأميركية، التي كانت متواجدة في أفغانستان آنذاك، سلمته إلى إيران في صفقة ما، ليُعدم لاحقًا. وعلى إثر ذلك، تراجعت عمليات "جند الله" بشكل ملحوظ، إلى أن ظهر في عام 2012 "جيش العدل"، الذي اعتُبر امتدادًا لـ"جند الله"، ونشط في تنفيذ عمليات عسكرية وأمنية ضد القوات الإيرانية. ومن بين آخر العمليات التي أعلن عنها قتل العقيد حسين علي جافادانفار، قائد فيلق سليمان الفارسي في سيستان، وقبله الهجوم الذي استهدف مخفرًا للشرطة في ديسمبر الماضي في شمال شرقي البلاد، والذي أسفر عن مقتل 11 شخصًا.

في عام 2010، كنت أقوم بإعداد فيلم وثائقي حول بلوش باكستان، وتعمقت في تفاصيل المشهد البلوشي الممتد من باكستان إلى إيران وأفغانستان. والتقيت خلال إعداد الفيلم بكبار قادة المتمردين، والشخصيات السياسية الباكستانية والأفغانية المعنية بالملف، بالإضافة إلى إجراء تحليل معمق للوضع البلوشي في المنطقة. وفي خضم ذلك، اكتشفت تفاصيل مهمة وتقاطعات إقليمية ودولية ضخمة، وتيقنت أن البلوش، سواء كانوا قوميين أو إسلاميين، هم ضحايا تلك الصراعات والتسويات الإقليمية والدولية.

اتضح لي أيضًا أن كلا البلدين، إيران وباكستان، يستغلان الجماعات البلوشية كأدوات في حروب الوكالة، سعيًا لتحقيق مكاسب جيوسياسية واقتصادية. لكن من الواضح أن باكستان قد تراجعت عن هذه السياسة في تلك الفترة، بسبب تخلي الرئيس برويز مشرف في ذلك الوقت عن دعم وحماية تلك الجماعات، حتى وصل الأمر إلى حظر الجماعات الكشميرية. أما إيران، فقد واصلت سياستها المعروفة ببناء ميليشيات موالية لها في المناطق المجاورة لها، وحتى البعيدة عنها، مثل تشكيل لواء "زينبيون" الشيعي الباكستاني الذي يقاتل في سوريا حاليًا، وهو ما يثير قلق السلطات الباكستانية من إمكانية استخدامه لاحقًا كأداة من أدوات حروب الوكالة لاستهداف وجودها.

الصين وسيطًا.. والخوف على مشروع الحزام والطريق

تعتمد الاستراتيجية الصينية، إقليميًا وعالميًا اليوم، على توسيع مشاريعها الاقتصادية، وعلى رأسها مشروع الحزام والطريق، الذي يشتمل على طرق وموانئ تهدف إلى الوصول إلى أوروبا عبر باكستان وأفغانستان والخليج. لذلك، فإن التوترات الأخيرة قد تؤثر سلبًا على هذه الخارطة، أو على مشروع الصين الاقتصادي والعسكري الضخم المتمثل في الاستثمار في ميناء جوادر الباكستاني، والذي يُنظر إليه على أنه تهديد لميناءي تشابهار الإيراني.

هذا الواقع هو الذي دفع الصين إلى التدخل السريع من أجل احتواء التصعيد الإيراني الباكستاني. ولكن يبدو أن إسلام آباد لم تقبل العرض الصيني بعدم الرد على القصف الإيراني، وهو الأمر الذي ذكّر الباكستانيين بعرض الرئيس الأميركي بيل كلينتون في مايو/أيار 1998، عندما عرض على باكستان عدم الرد على التفجيرات النووية الهندية، مقابل حزمة من الدعم الأميركي المغري. ولكن القيادتين السياسية، ممثلة بنواز شريف، والعسكرية، ممثلة ببرويز مشرف، رفضتا هذا العرض، وأصرتا على إجراء الاختبارات النووية، مما مكن باكستان من أن تصبح دولة نووية معترف بها، وحمايتها في مرات عديدة من أي مغامرة هندية بالاعتداء عليها، طالما أن الردع النووي الباكستاني حاضر ومخيف ليس للهند فقط، وإنما للدول الغربية وحتى الإقليمية التي كانت تسارع لنزع فتيل أي مواجهة هندية باكستانية لمنع جر المنطقة إلى مواجهة أبعد من باكستان والهند.

باكستان.. غليان داخلي وانتخابات وشيكة

على الرغم من أن البعض يعتقد أن القصف الإيراني جاء لتعزيز الوحدة الوطنية الباكستانية في ظل ما تعانيه من توترات داخلية، إلا أنه أتى في ظروف بالغة الصعوبة. أول هذه الظروف هو استمرار سجن رئيس وزراء منتخب سابق، وذي شعبية كبيرة، هو عمران خان، وما ترتب على سجنه من توترات مع المؤسسة العسكرية. بالإضافة إلى ذلك، تقترب باكستان من انتخابات عامة في الثامن من الشهر المقبل، وهو الأمر الذي يضع أمامها استحقاقات عديدة. مما يزيد من خطورة الوضع الباكستاني هو حالة الفتور أو التوتر في علاقاتها مع حركة طالبان الأفغانية، على خلفية اتهاماتها للحركة بتوفير الملاذ الآمن لحركة طالبان باكستان، التي تستهدف بشكل متواصل مؤسسات الدولة الباكستانية.

لكن بشكل عام، فإن كل من يعرف باكستان وتاريخها يعلم تمامًا أن العسكر، الذين حكموا لأكثر من نصف تاريخها، هم من يملكون قرار الحرب والسلم. وبالتالي، فإنه مهما كانت الحكومة السياسية ضعيفة أو هشة، فإن القرار النهائي في المحصلة يعود للجيش الباكستاني، الذي يُعد الوارث الحقيقي للدولة.

آفاق التصعيد

أعتقد أن سرعة الرد الباكستاني، بقطع العلاقات وسحب السفراء والرد العسكري المباشر على القصف الإيراني، شكل مفاجأة للقيادة الإيرانية، التي كانت تظن أن الرد الباكستاني لن يتعدى إصدار البيانات والتصريحات. ولكن يبقى السؤال الذي يطرحه الكثيرون في إسلام آباد: ما هو سبب هذا التصعيد الإيراني غير المبرر في نظر النخب الباكستانية، بحيث يتم تحدي دولة نووية، وذات قدرات عسكرية تفوق الطرف الإيراني؟

هنا، سيظل المطبخ العسكري والأمني الباكستاني منكبًا، ربما لأشهر، وهو يحلل هذه الخطوة الإيرانية، وتداعياتها وما سيتبعها.

ويبقى ما يقلق باكستان الآن هو أن تنشغل على جبهتين، وهما الجبهة الهندية، التي يرابط عليها غالبية جيشها، والجبهة مع إيران. وهذا ما كانت تبتزها به أمريكا خلال غزوها لأفغانستان، بحيث تم توجيه غالبية الجيش الباكستاني إلى الجبهة الشمالية الغربية في مواجهة أفغانستان، الأمر الذي أضعف قدراتها وإمكاناتها.

بررت بعض الأوساط العسكرية الباكستانية عدم التصدي للغارات والقصف الإيراني، بأن كل مضاداتها ومعداتها العسكرية منصوبة على الجبهة الهندية، ولم تكن تعتقد أن الأمر بحاجة إلى نشر مضادات جوية على الجبهة الإيرانية. مما يعني أن المرحلة القادمة ستفرض على القيادة العسكرية الباكستانية توزيع قواتها وقدراتها العسكرية على جبهتين، الأمر الذي سيصب في صالح عدوتها التقليدية الهند، خاصة في ظل حكومة مودي الهندوسية المتطرفة، ليس فقط بحق المسلمين الهنود والكشميريين والباكستانيين، وإنما حتى بما يتعلق بالأقليات غير الهندوسية الأخرى، مثل السيخ والمسيحيين.

سواء نجحت الدبلوماسية في تخفيف التوتر بين البلدين أم لم تنجح، فإن ما بعد السابع عشر من يناير/كانون الثاني ليس كما هو قبله في المنطقة بشكل عام، خصوصًا أن عوامل ومتغيرات داخلية وإقليمية ودولية متعددة ومتداخلة في القضية، وستتداخل مستقبلًا.

فباكستان، التي لم تتوقع في أسوأ كوابيسها مثل هذا الهجوم الإيراني، حيث من المفترض أن تكون إيران، بحسب التخمينات الباكستانية، منهمكة في خط التصدي للعدوان على غزة، وكذلك التطورات المتلاحقة في البحر الأحمر، تفاجأ الآن بمهاجمة باكستان، التي هي شعبيًا وحتى مؤسساتيًا منهمكة وبقوة في الحشد والتعبئة والدعم لغزة، حيث قامت المؤسسة العسكرية بالتعاون مع مؤسسة الخدمة بإرسال عشرات الآلاف من الأطنان من المواد الغذائية إلى مصر ثم إلى غزة.

تبقى الأيام المقبلة ذات أهمية فائقة في رسم المشهد الإيراني الباكستاني والإقليمي بشكل عام، ونحن ننتظر بفارغ الصبر فهم سبب التصعيد الإيراني ضد باكستان، وآفاق هذا التصعيد وانعكاساته على برميل بارود إقليمي ممتد من روسيا والهند إلى إيران وأفغانستان.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة